التعافي من صدمة الواقع والتحولات القيمية
امتدت جرائم نظام الأسد ضد الشعب السوري إلى ما هو أبعد من المجازر والقمع والتهجير لينتزع من الشعب شرعيته الملوثة بدماءهم. وظّف النظام السوري مؤسسات الدولة بشكل ممنهج لتوجيه الفكر وتطويعه لخدمة مصالحه وأيديولوجيته، وكان الأطفال السوريون ضحية تسخير المناهج الدراسية لغرس عقيدة الرئيس الوحيد والحزب الواحد، واستغلال البيئات التعليمية للتلقين القسري وزرع عقيدة تأليه القائد وخلق جيل خاضع من خلال التلاعب وغسل الأدمغة والتعبئة الفكرية التي تخدم رواية النظام وتمجده وتخوّن كل من يحاول الخروج من تحت عبائته.
كيلا يسبب الضوء في آخر النفق العمى للأطفال
بسقوط نظام الأسد بشكل سريع، انتقل الأطفال الذين عاشوا في المناطق الخاضعة لسيطرته من الظلام الحالك إلى النور بشكل مفاجئ، والذي من الممكن أن يخلق لديهم حالة أشبه بالعمى المؤقت.
الانهيار السريع لنظام الأسد كان بمنزلة زلزال مدمر للقيم والمبادئ المشوهة التي زُرعت في عقول الأطفال حيث تحول القائد ورموزه التي مجّدوها بشكل يومي وممنهج إلى عدو، وتحول الأعداء المزعومون الذين لطالما أطلق عليهم النظام مسميات مثل “العصابات الإرهابية المسلحة” إلى أبطال ومحررين، وتحول العلم الذي ارتبط بالخيانة حسب روايات النظام إلى رمز وطني ارتبط بالتحرر والخلاص. وغيره كثير من التفاصيل والأحداث المتسارعة التي يعجز دماغ الأطفال عن تفسيرها والتعامل معها، مما خلق حالة من الإرباك و فجوة قيمية وأخلاقية إضافة إلى احتمال انعدام مشاعر الأمان وفقدان الثقة بالبالغين من الأهل والعاملين في المؤسسات التعليمية.
جميع هذه التغيرات السريعة والمفاجئة والتحولات الجذرية في منظومة القيم والأخلاق والمبادئ عند الأطفال من الممكن أن تخلق صدمات نفسية خطيرة على المدى القريب والبعيد، وإن لم يتم التعامل معها بالشكل الصحيح قد تتعمق الأضرار وتتحول إلى مشكلات نفسية طويلة الأمد، تشمل أزمات الهوية وفقدان الثقة بالهياكل الاجتماعية.
سقوط النظام على الرغم من الإرباك الذي سببه للأطفال، فرصة عظيمة لنهضة فكرية وإعادة بناء منظومة القيم والأخلاق والمبادئ، وبالنسبة للأطفال، يعني هذا تعزيز المبادئ القائمة على حقوق الإنسان العالمية، والتفكير النقدي، والتعاطف، وهي مبادئ تتجاوز الولاء لأي شخصية سياسية أو أيديولوجية. وأن تتم إدارة هذه المرحلة الجديدة بحكمة وعناية، بحيث نتبنى قيماً ثابتة وراسخة لا ترتبط بشخص أو جماعة وتنهار وتسقط بسقوطهم، وهذا ما عمل عليه النظام السابق لعقود حيث جعل القيم الوطنية والأخلاقية مرتبطة برمزية القائد والولاء المطلق له.
كيف نتعامل مع أطفالنا الآن؟
تنقسم العائلات السورية إلى ثلاثة أقسام رئيسية بما يخص الموقف من الثورة السورية:
عائلات وقفت في وجه النظام بشكل واضح وصريح: هذه العائلات في الغالب دفعت ثمناً باهظاً نتيجة لهذه المواقف من تهجير وقصف وفقدان الممتلكات وخسارة أشخاص مقربين، رغم أن هذه العائلات كانت على مدار 14 عاماً تبني منظومة قيم ومبادئ ضد الظلم ومساندة الحق لكنها قد تواجه تحدياً في التعامل مع مشاعر الحقد والغضب والرغبة في الانتقام التي تراكمت على مدار سنوات نتيجة للممارسات العنيفة غير المسبوقة في التاريخ الحديث من قبل النظام المخلوع، لكن نهاية حقبة الظلم هي فرصة لتعزيز قيم سامية مثل التسامح والعفو عند المقدرة، وأن الكراهية كانت أحد الأدوات التي استخدمها الأسد ضد الشعب لتفكيكه وإضعافه، ويجب التخلص من الأدوات التي استخدمها النظام السابق لبناء سوريا جديدة تقوم على أسس العدل ونصرة المظلوم.
عائلات التزمت الصمت والحياد خوفاً من بطش النظام: هذه العائلات خاصة التي كانت تعيش في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام السابق رغم اعترافها الضمني بإجرام النظام وعدم الرغبة بمساندته؛ إلا أنها في الغالب لم تعكس هذا الأفكار والمشاعر للأطفال خوفاً من بطش النظام. رغم أن الخوف قد يكون مبرراً لكن هذه العائلات مطالبة بخلق بيئة حوارية يوضحون فيها لأطفالهم مواقفهم والمعضلات الأخلاقية التي واجهتها هذه الأسر.
ومن الممكن استذكار بعض المواقف التي تجنّب فيها الآباء دعم النظام في الماضي، ومن المهم أن نؤكد للأطفال أن الحياد ليس الموقف المثالي، ومن الضروري التحدث عن شجاعة الأشخاص الذين وقفوا بشكل واضح ضد الظلم وأن نقدر الجهود والدماء المبذولة في سبيل الوصول للتحرر من الظلم والوصول للحرية التي سمحت للآباء أن يصارحوا أطفالهم بمواقفهم من الظلم التي اختاروا إخفائها لسنوات.
عائلات ساندت النظام ودعمته: بالنسبة لهذه الفئة من المهم أن يتصالحوا مع أنفسهم أولاً ويتحملوا مسؤولية أخطائهم وأن يراجعوا مواقفهم السابقة، وهنا يكون الاعتراف بالخطأ أمام أنفسهم أولاً ثم أمام أطفالهم واجباً أخلاقياً يحمي أطفالهم من التشوش الفكري ويساعدهم على فهم التناقضات والتعلم من الأخطاء.
هل يدين الآباء المتخاذلين باعتذار لأبنائهم؟
الصدق و الاعتراف بالخطأ هو من أهم خطوات استعادة المصداقية، ومن الضروري الانتباه إلى أن الإفراط في التبرير وخلق الأعذار سيسهم في إعادة بناء منظومة قيم مشوهة. وعندما تبرر لطفلك وتعطيه الأسباب التي دفعتك لاتخاذ مواقفك السابقة، مثل تأثير التضليل الإعلامي والخوف من الإقصاء والعقاب، لا بد من التشديد على أن هذه الأسباب ليست مبرراً كافياً للتخاذل، وأن الاعتذار ليس وسيلة فقط للاعتراف بالخطأ، إنما هو ضرورة تؤكد للأطفال أنك تحترم مشاعرهم وعقولهم، وهو ليس مؤشر ضعف إنما هو مؤشر للنضج والشجاعة.
الشفافية في مناقشة المواقف السابقة والتحدث عنها يحمي الطفل من مشاعر سلبية عديدة ويساعدهم على فهم الواقع والسياق ويشجع الأطفال على تعزيز التفكير النقدي والبحث والتقصي والتحليل والمساءلة وتكوين أفكارهم الخاصة من دون التبعية لمجموعة معينة أو من دون الانقياد الأعمى لكل ما يُملى عليهم.
قد تظهر بعض العائلات ردود أفعال متطرفة نتيجة لمشاعر العار والخزي من مواقفهم السابقة مما يجعلهم يبالغون في تبني قيم الثورة، محاولين إنكار وتناسي مواقفهم السابقة بانعطافة حادة، وهي حالة غير صحية وقد تضر بالصالح العام. هذه المرحلة بحاجة لمراجعة حقيقية للمواقف في الماضي لتجنب تكرار الأخطاء في المستقبل.
التوازن مهم جداً في هذه المرحلة، ويجب الانتباه إلى أن المبالغة والإفراط في تبني القيم الجديدة لن يساعد طفلك، إنما سيزيد مشاعر الإرباك.
دور المؤسسات الحكومية والتعليمية والإعلام الرسمي
يتوجب على المؤسسات الحكومية والتعليمية والإعلام الرسمي والمؤسسات المعنية أن تكون وسائل لخدمة الشعب لا السلطة، وسائل لنشر الوعي ومحاربة التضليل والأفكار المسمومة التي زرعها النظام على مدار عقود وباتت مترسخة عند بعضهم، وتتبنّى عملية إصلاح شاملة بعيدة عن نهج النظام الذي قام على الخداع والترهيب خاصة في المؤسسات التعليمية بصفتها العمود الفقري لبناء الفرد الذي سيبني الدولة التي سعى من أجلها الشعب السوري.
تبدأ عملية الإصلاح في المؤسسات التعليمية من خلال تعديل شامل للمناهج الدراسية تكون بعيدة عن تمجيد وتقديس الأفراد والولاء الأعمى للسلطة، ويتعلم الطفل من خلالها حقوقه وواجباته كمواطن، إضافة إلى تضمين مواد تاريخية تسرد حقائق ماجرى وتوثق الجرائم بطريقة موضوعية، إضافة إلى تدريب المدرسين على تبني أساليب تدريس بعيدة عن النهج القمعي السابق، واعتماد أساليب تعزز وتدعم مهارات التفكير النقدي والمسائلة والتعبير والحوار الصحي.
هذه المرحلة الجديدة التي تحتاج لجهد جماعي تبدأ من الأسرة وتعززه وتدعمه المؤسسات التعليمية لإعادة بناء ما دمره النظام المخلوع. إعادة بناء المنظومة الفكرية يجب أن يتم بطريقة تدريجية بعيداً عن التلقين واتباع سياسة القطيع، بطريقة تراعي فهم الطفل وتوفر له بيئة حوارية آمنة يستطيع من خلالها طرح التساؤلات بحرية.
يجب أن تركز هذه المرحلة على تحويل القيم إلى أفعال ومواقف تخدم المجتمع ولا تكون مجرد عبارات يرددها الأطفال من دون فهم حقيقي لمعناها، ويجب تطبيقها بشكل ملموس وفعلي من خلال ممارسات حقيقة تعكس القيم مثل الحرية والكرامة واحترام الآخر وقبول الاختلاف والتسامح والمواطنة وغيرها من المبادئ والأفكار المهمة.
نحن لا نحتاج لتغير مواقف الأطفال فقط، إنما نحتاج لتمكينهم من امتلاك أدوات التفكير التي تتيح لهم اتخاذ القرارات وتبني المواقف بشكل واعي.
أهمية الدعم النفسي في المرحلة المقبلة
الأطفال السوريون بغض النظر عن طبيعة الظروف التي مروا بها ورغم تفاوت الحاجة للدعم واختلاف نوع الدعم الذي يحتاجه كل طفل باختلاف تجربته؛ إلا أنهم يحتاجون إلى دعم نفسي شامل لمساعدتهم على تجاوز آثار الحرب وإعادة بناء حياتهم في بيئة أكثر أماناً واستقراراً.
تركت الحرب السورية آثاراً نفسية عميقة على معظم الأطفال سواء أولئك الذين عانوا بشكل مباشر من الفقد والتهجير والخوف وانعدام الأمان، ومروا بصدمات وشهدوا بشكل مباشر على العنف والمجازر، أو أولئك الذين واجهوا صدمة تغيّر الواقع بشكل مفاجئ.
تلفزيون سوريا